مصطلح (الفساد المالي ) هو مصطلح حديث نسبيا في اللغة السياسية والادارية ولكنه كموضوع قديم قدم النظم السياسية والادارية . ففي العهد الاسلامي الاول كان هناك ما يقابل هذا المصطلح وهو استباحة اموال المسلمين . وفي عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان كثر الحديث في بداية الفتنة الكبرى عن ذلك . وعند الرجوع الى امهات كتب التاريخ العربي للمؤرخين العرب القدماء مثل انساب الاشراف للبلاذري او كتاب تاريخ الامم والملوك للطبري او الكتاب المعاصرين مثل كتاب الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين او كتاب عثمان ذو النورين لعباس محمود العقاد يمكن ان نكتشف بوضوح ان هذا الموضوع كان هو الشغل الشاغل للناس في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الاسلام والعرب .
ولعل بدايات ظهور ردود الافعال الشديدة على ذلك كانت في العراق . ففي مجلس سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفه قال بن العاص بان (السواد هو بستان قريش ) والمقصود هو ان وسط وجنوب العراق هي ملك لقريش اي انه ملك للقبيلة المكية القادمة الى العراق . وقد اغضب ذلك من في المجلس وتسرب الخبر الى اهل الكوفة الذين قالوا (انما السواد ما افاءه الله علينا وما نصيب قريش منه الا كنصيب غيرهم من المسلمين وهكذا نرى ان تلك كانت الشرارة الاولى وان لم تكن الوحيدة التي اشعلت نار الفتنة وادت الى مقتل الخليفة .
كان عثمان منذ ما قبل الاسلام ثريا واسع التجارة وكان سخيا سمحا معطاء وبعد ان ولي الخلافة مضى في سيرته الاولى في الانفاق على رحمه وذوي قرباه وبما انه توقف عن التجارة بسبب انشغاله بالامور العامة فقد استباح لنفسه ان ياخذ من بيت المال ما يقارب الربح الذي كان يمكن ان يحققه لو استمر في تجارته وقد اباح بعض عمال عثمان لانفسهم ما اباحه هو لنفسه من اطلاق ايديهم في الاموال العامة بل ان البعض منهم استقل بولايته حيث استقل عبد الله بن مسعود في الكوفة واستقل عبد الله بن الارقم في المدينة ويروى عن عثمان انه قال (ان ابا بكر وعمر كانا يظلمان انفسهما بعدم صلة رحمهما تقربا الى الله وانا اصل رحمي تقربا الى الله ).
ومما يروى انه اعطى مروان بن الحكم خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في افريقيا واعطى الحارث بن الحكم ثلثمائة الف دينار واعطى عبد الله بن خالد مائة الف وكلهم امويون . حتى ان صاحب بيت المال ابى ان ينفذ الامر واستقال من عمله . كما اعطى الزبير بن العوام ستمائة الف واعطى طلحة بن عبيد الله مائة الف واعطى سعيد بن العاص مائة الف وزوج ثلاثة او اربعا من بناته لرجال من قريش واعطى كل واحد منهم مائة الف دينار .
على ان عطاء عثمان لم يقتصر على الاموال السائلة وانما تجاوز ذلك الى الاموال غير المنقولة والعقارات فقد كان يقطع الاقطاعات الكثيرة في الامصار لبني امية وقد دافع البعض عن هذه الخطوة بان الهدف منها كان استصلاح الارض وقد رد البعض الاخر عليهم بان استصلاح الارض ليس قصرا على قريش وبني امية وغيرهم بل ان كل المسلمين يمكن ان يقوموا بذلك .
ان سخاء الخليفة بالاموال العامة لبني امية خاصة ولقريش عامة اتاح لهم ان يشتروا الارض في الامصار في العراق والشام ومصر وغيرها مما ادى الى نشوء الملكية العقارية الضخمة في الاسلام وتكوين طبقة غنية شديدة الثراء نتيجة للامتيازات الواسعة التي حصلت عليها .
كانت سياسة عمر بن الخطاب سياسة واضحة فقد كان ياخذ خمس الغنائم ويقسم الاربعة اخماس الاخرى بين الذين غنموها ثم كان يجمع الى الخمس ما يجبى اليه من الخراج والجزية ثم يقسم العطاء على المسلمين جميعا . ولكن ما حصل في خلافة عثمان ونتيجة للثروات الهائلة المتدفقة من البلدان المفتوحة اخذ الكثيرين من شباب قريش واهل المدينة يعيشون عيشة بطالة بالاعتماد على اعطياتهم وقد لا يحتاجون الى هذه الاعطيات لذلك فقد طالب المعارضون فقالوا من كان منهم غنيا فلا حق له في بيت المال ومن كان منهم فقيرا فليعمل ولا معنى لان تنفق الاموال العامة على الكسالى والمتبطلين . وقد اجابهم عثمان الى ما طلبوا وخطب في الناس فقال لهم من كان له زرع فليلحق بزرعه ومن كان له عمل فليكتسب بعمله فليس لاحد عندنا عطاء الا ان يكون من الذين قاتلوا او من الشيوخ اصحاب رسول الله .
لم يستطع عثمان تنفيذ هذه السياسة فقد كان ماكان من امر الفتنة مما ادى الى مقتله.
أ. د عبد الجبار منديل /اكاديمي عراقي /كوبنهاكن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق