لا أخفي عليكم بأنّني لست من روّاد المساجد المواظبين لا لفقر إيماني أو ديني في نفسي أو سوء تقدير لأهمية دور المسجد في تكريس العلاقات الجماعية سواء من الناحية الدينية أو الاجتماعية ، لكنّ عزوفي عن ارتيادها ومنذ الثورة الملعونة وظهور الخفافيش الملتحية من تحت الأرض وتصدّرها للمشهد العام في البلاد وما زرعته من بذور فتنة بين أبناء الشعب الواحد وصل إلى الحدّ الذي بات معه التونسي في الخارج يخجل من أن يصدع بهويّته الوطنية لأنه بات مرادفا للإرهاب ، بعد أن كان يفتخر بذلك ، وبعد أن التصقت صورة التونسي في كل أصقاع الدنيا بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة محررالبلاد والمرأة وباني دولتها وعزّتها . هذا العزوف عن ارتياد المساجد مردّه أيضا الأمراض المستعصية والعادية الذي يسببه لأمثالي من أصحاب العقول الذين يرفضون أولى تعاليم إخوان الشياطين الذين يسمّون أنفسهم بالإخوان المسلمين أو اختصارا “الخوانجية”الذين انتصبوا في المساجد ، الشعار القائل بأن “المسلم من سمع أمرا قال سمعنا وأطعنا” فيلعنون ويسبّون ويكفّرون العباد والخصوم ، ويحشرون تعنّتا وقسرا السياسي في الديني بل ويحوّلون عديد المساجد إلى فضاءات لتكديس السلاح وتنظيم عملياتهم الإرهابية ومنطلقا لترحيل الشباب التونسي نحو المحرقة السورية والعراقية والليبية والواجهة الأولى للدفع بهم إلى الجبال والفيافي للقيام بالعمليات الإرهابية التي أسفرت إلى حد الآن عن استشهاد العشرات من أبناء الجيش والأمن ، وأنتفي كل ذلك مطالب بالسكوت وعدم الرد لأن بيوت الله يستهجن فيها الجدل والروث ، وما عليك إلاّ أن تهزّ رأسك بالإيجاب كما البغل الذي انتهت حصته من الشعير في المخلاة ،أو أن تغادر إن لم يعجبك الأمر
كل هذه الأسباب جعلتني منذ سنوات أبتعد عن المساجد وأتّقي شرّها ، ومع ذلك هزّني الفضول في اليومين الماضيين لأدخل مسجد حومتي لقضاء صلاة العصر ، والذي كانت لي معه في مثل هذا الشهر الكريم منذ سنتين قصة في خطبة جمعة إمامه الذي أعتق يومها ربّه وربّ العباد وأمسك باتحاد الشغل سبّا ولعنة . المهم أنّني وجدت نفسي بعد حوالي نصف ساعة من دخول المسجد ألعن رجليّ ويديّ وكلّ أطراف جسمي وأقول يا ليتني ما فعلت ، فقد خرجت مسرعا لا ألوي على شيء غير الهروب من جهل وخبث أحد الصبية الشباب من الذين لا يرون دينهم في غير الّلحية والقميص الفضفاض ، وقد نصّب نفسه على خلق الله خطيبا وباستعمال مكبّر الصوت خارج المسجد وكأنها صلاة جمعة مع أن الحضور لم يتجاوز بضع العشرات ، وأنا ألعن الجوامع والمساجد والأمن والأمنيين والوالي والمعتمد والوزير والوزارة والدولة والرؤساء
فقيه زمانه هذا الذي يزمجز ويزبد ويرعد ، هذا الذي نصّب نفسه على المصلّين في جامع الفلاح شيخا ورعا مفتيا يعطي الدروس ويفسّر الطلاسم ويحلّ العقد مع أنّي أقسم أنه لم يتعلّم من أصول الفقه غير بعض أقوال شيخ الخوانجية المسمّى ابن تيمية وما يردّده رموزهم من ترّهات وخزعبلات على مريديهم وأتباعهم من الشباب الذي خفّ عقله وكبر جهله ، انطلق في درسه يحدّثنا عن أولى واجبات المسلم بعد التذكير طبعا بمسلّمة المسلّمات السمع والطاعة ، وهي الصلاة واستتباعاتها واستحقاقاتها الأخلاقية والسلوكية ، من ذلك وجوب أن يفرض الرجل على زوجته ارتداء الحجاب ومنعها من الذهاب لحفلات الأعراس سافرة ، والحرص والشدّة مع كامل أعضاء الأسرة على أداء الصلاة في وقتها ، بل ولا بد حسب شيخنا هذا أن يرقى سلوك المسلم المصلّي لدرجة تنصيب نفسه وصيّا على ضمائر الناس وعقائدهم ، بأن يردع أحد أفراد عائلته المصغّرة أو الموسّعة عن عدم القيام بالصلاة في وقتها وإقناعه بضرورة الإقلاع عن شرب الخمر مثلا ، وذلك في نظره أنبل مظاهر الدين والتدين أي الصلاة وعدم شرب الخمر ، وأقصر السبل لتركيز أسس المدينة الفاضلة وصلاح البلاد والعباد
لم يتكلّم الشيخ المتفقّه عن العمل ، عن الأخلاق ، عن السلوك القويم ، عن قيم الصدق والأمانة والنظافة والشرف ، عن العلم والمعارف ، عن الاكتشاف والبحث ، عن معنى أن يكون الإنسان خليفة الله في الأرض ، عن أمة اقرأ ، وعن “لو تعلّقت همّة المرء بما وراء العرش لناله” ، لم يكلّمنا في كل هذا، كلّمنا فقط عن هذا الواجب الأول في حياة المسلم وهو الصلاة الذي أفرد له ثلاثة أرباع الساعة بعد أذان صلاة العصر مع أنّه ذكّرنا بأن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، قبل أن يعلمنا بأن الواجب الثاني هو الجهاد والذي سيخصّص له أكثر من درس في قادم ما قبل الصلوات الآتية عصرا كانت أو ظهرا أو عِشاء أو حتى فجرا ، وهذا هو بيت القصيد… قلت في نفسي هذا هو الصحيح الذي جاء من أجله هذا الفاسق مقابل كميات غير هيّنة من الدولارات والأورووات التي باتت تدخل البلاد بألف طريقة وطريقة لا تخفى على البطّيخ والدلاع والخوخ والنعناع
لم أتمالك نفسي، لملمت أعصابي وبقايا عقلي وخرجت ألعن نفسي وهذا الزمن الأغبر ، وأنا متيّقن بأن هذا الدعيّ للتدين بعث به أسياده من أجل مهمّة واحدة : تجنيد بعض الشباب لما يسمّونه بالجهاد في سوريا وليبيا ، وأقسمت أنّني لن أترك أبدا أحد أبنائي فريسة لهم حتى وإن لزم الأمر منعه من ارتياد المساجد بلو تشجيعه على ارتياد الحانات والخمّارات ، إذا كان لا مفرّ من الإقرار بأن الدين أو التدين والخمر خطّان متوازيان لا يتلقيان ، وهذه مسألة أخرى لي فيها رأي
رشيد الكرّاي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق